إنها ليست جولة أولى على أية حال، فقد سبق هذا العدوان الأخير اعتداءات أو كما يقال عنها تصعيدات عسكرية، وهذا إنما يدل على أن العدوان قائم متواصل في ميادين شتى ولدواع عديدة، إنما يُصعَّد من حين لآخر حسب متطلبات ورؤى الكيان المستعمر الإحلالي
ولا بد لنا من مراجعة بضع حقائق هنا، أولا، قطاع غزة وهو خيط ساحلي تبلغ مساحته 365 كيلو مترا مربعا محتل بشكل غير مباشر ومحاصر، فبالإضافة مثلا إلى أنه مضطر على التداول بعملة العدو، يقف العدو على كل معابره متحكما بالحركة والمعيشة والاقتصاد، عدا معبر رفح، النقطة الواصلة بين رفح الفلسطينية ورفح المصرية، من المفترض أنها نقطة سيادية تقوم عليها مصر.
ثانيا، كان قد انسحب العدو من غزة العام 2005 مدفوعا بمقاومة شديدة، فكشف في إعلانه الانسحاب عن قرار فك ارتباط أحادي الجانب، وهو مصطلح سياسي يرمي إلى انفصال بين دولتين حتى تحقق كل دولة منهما سيادتها جغرافيا وسياسيا، وسيلغى الكنيست القرار فيما بعد في آذار من العام2023
ثالثا، بدأ الحصار على غزة العام 2007 عقب الانتخابات التشريعية في كانون الثاني للعام 2006، عقابا جماعيا على اختيار أهل غزة ممثلا تشريعيا لهم، من خلال عملية انتخاب ديموقراطية، إلا أن العدو-الديموقراطي الوحيد في الشرق الأوسط حسب تقدير الغرب-أراد مصيرا آخرا لأهل غزة.
رابعا، اعتدى العدو الإسرائيلي منذ انسحابه من القطاع حتى ما قبل 7 أكتوبر العام 2023، ست مرات على غزة كان أطولها مدة عملية "الجرف الصامد" العام 2014 استمرت 51 يوما وارتقى فيها 2322 شهيدا.
فكيف بنا اليوم نعد زيادة عن 220 يوما من العدوان على القطاع؟
أكثر من 35 ألف شهيد، أكثر من 10 آلاف مفقود بين أسير أو شهيد أو حي تحت الأنقاض، وعشرات آلاف الجرحى لم ينجوا من جراحهم ولن ينجوا من استهداف آخر.
اتفق الرأي العام بداية العدوان في أكتوبر العام 2023 على سيناريو مغاير للواقعة، على شاكلة الاعتداءات السابقة كأقل تقدير، كنا في أحاديثنا نقول سيتحرك هذا العالم بطبيعة الحال، نرجع أمنيتنا هاته إلى أسباب عدة، منها:
أنه قد ثبت كذب الرواية الإسرائيلية، وبدا جليا استخدام العدو لمنصات وألسن إعلامية بشكل سخيف مبتذل.
أن المسألة ترتبط بشكل أساسي بحال من نضال مستمر وقضية صحيحة هي فلسطين التاريخية، وأن الشعب الفلسطيني شعب لأمة لن تتفرج عليه يذبح.
أنه نضال بين مستعمر محتل وبين شعب قابع تحت استعمار إحلالي منذ 76 عاما، وأن القانون الدولي الإنساني بيَّن حق الدفاع عن النفس لمن، ومتى يُستحق
وأننا في زمن الحقوق الإنسانية والمنظمات اللاهثة في هذا السبيل، بالإضافة إلى الذين يدينون بالحقوق والإنسانية، على جانب سلطوي آخر تدين دول وجماعات ذات وزن شعبي وسياسي وعسكري بحق النضال الفلسطيني وواجب دعمه ومناصرته
لكننا "نحن" منذ تاريخ هذا العدوان ونحن نقف على كل مجزرة نحسب أنها ستدفع هذا العالم ليقف مرة واحدة بوجه العدو، واللافت أيضا لما قلنا نحن فلا لسنا نقصد الشعب الفلسطيني حصرا، ولم نشمل الرأي العام العربي فحسب، بل نحن مجموعات متفاوتة العرق والجنس والانتماء والثقافة ترى أنه لا بد من إيقاف هذه الإبادة الجماعية بحق قطاع غزة، بل لا بد من استرداد الحق الفلسطيني من النهر إلى البحر
هناك مشهدا حقيقيا اليوم لمجتمعات تفترش الطرقات تتفاوت أعمارهم، ومستوياتهم التعليمية، ووظائفهم المجتمعية، ومراكزهم كلهم من مطرحه وبلده يطلب تحركا جادًا لوقف الإبادة، والكف عن دعم المجرم العدو، لكن شيئا يقف حائلا بين إرادة المجتمعات وبين وقف الإبادة، هو إرادة الحكومات التي خلُصت إلى أنه لا دليل على الإبادة في غزة، وحاولت جهدها أن تسوق لرواية العدو المستعمر أنه ألقى جحيمه على غزة من باب الدفاع عن النفس ليس إلا!
بل بدا كأنَّ الطبقة الحاكمة على صعيد العالم كانت تتحيَّن فرصة 'تحييد' قطاع غزة، ووسط خطابات وبيانات مليئة ب'أنا إنسان أعارض العنف' تعبر قافلة أسلحة حديثة متطورة، منهم إلى إسرائيل، تدمر القطاع الصحي والتعليمي وتبتر جوارح الناس وتثكل أفئدتهم، وتلاحقهم من المبنى إلى الخيمة، ونحن نقلب أنظارنا بين موقفين، إما معبر فيلاديلفيا البري بين غزة ومصر، أو رصيفا مائيا استعانوا على بنائه بأنقاض مبانٍ دمرت في غزة قد تحمل بجعابها عظاما من شهداء أو تحمل لحمهم!
إنَّ أحدا في هذا الضرب الزمني المتسارع من وفود العالم المتقدم التي تهافتت على المنطقة ساعية في الحرب أو في السلم لم تسأل غزة ماذا تريد، وأي مصير ترغب!
هذا سيناريو آخر للحرب لم يتوقعه محلل أو خبير أظن، ظلّت القراءات تتطرف بالأحداث، زعم البعض أنه عدوان لن يطول، والبعض الآخر آمن بأن حربا ستدور رحاها في الإقليم، لكن غزة ظلّت في الوسط، تنهش من كل حدب وصوب، تذوق أهوال الحروب التى شهدتها الأمم في عدوان واحد جملة واحدة…
إنها الحرب ليست بأمانينا، إنما كيف أخطأنا في عمرها ووحشيتها التقدير؟